لا يوجد انترنت, لكني أعدكم بإتصال أفضل منه ..

لا يوجد اتصال للانترنت في عمق الطبيعة ..لكنّي أعدك أن تجدَ اتصالا أجمل منه ~

 هذا عنوان لمقال جميل كتبتهُ فتاة ماليزيّة مولعة بالسفر وقصص الطبيعة,  تقول : عندما أمضي وقتي  في المدينة أوّل شيئ أقوم بفعلة عند إستيقاظي صباحا هو تصفّح هاتفي مرورا بتويتر, الفيس بوك, انستغرام ومواقع أخرى .. أدفع بمخدّة أخرى تحت رأسي لأتمكّن من  رؤية الشاشة كما يجب ..أبعث بعض الرسائل هنا وهناك .. وهذا كلّهُ قبل مغادرة السرير

 في مولو يختلف الأمر, مكان في عمق الطبيعة  حيث لا تتوفر شبكات الإنترنت على انواعها هناك (مولو هو منتجع طبيعي في محافظة ساراواك  في ماليزيا) ..وصدقاَ إنّ أكثر ما جذبني صباحاَ قبل نهوضي من االسرير هو حشَرة صغيرة إستقرت على شعيرات فرشاة أسناني والتي  رحتُ أتأملها في هدوء لأكثر من 10 دقائق ..

إنّهُ حقاً لتغيير جميل ..

أتممتُ الحجز في فندق بسيط جدا في المنتجع .. كان يكفيني أنّه احتوى أساسيات الحياة الصغيرة , تشاركني في نفس الغرفة عدد من الفتيات . جريدة الصباح المدرسيّة القديمة المصبوغة بحبر الكتابة الأسود كانت حاضرة بقوّة لعدم وجود انترنت في المكان ..

عند تجوالنا في الغابات الإستوائيّة المجاورة أرشدنا للطريق دليل بإسم جاسبر , الذي حاول تنبيهنا مراراَ  بالهروب السريع عند هطول الأمطار التي من الممكن ان تودي بنا في فيضان .. وقال انّه يجب النجاة بحياتنا لاولئك الذين لم يتزوّجوا بعد ”  , كم هو عميق التفكير هذا الرجل ..

________________________

كهوف , أشجار عملاقة , جسور خشبيّة وأخرى مطّاطية.. تلال ومسالك تحبس الأنفس ..هكذا هم , بعض الناس يمتلكون الحياة البريّة والطبيعة الخلّابة في شخصيّتهم وفي فطرتهم .. هذه الفتاة الماليزيّة تسافر لوحدها لكنها لا عجب في أنها تعود في كل رحلة  بقلب مليئ بالصحبة .. 

نحن لا نحتاج الكثير من المال لكي نسافر .. بل أكثر ما في حاجته هو القليل من البساطة والكثير من الثقّة .. لا عيب في أن تسافر لوحدك اذا كنت تحمل في جعبتك أمنيات ترتوي من التعارف والأمكان البعيدة .. السفر لوحدك لا يعني أنّك وحيد , بل يعني أنّك لم تلتقِ بعد الشريك المناسب الذي  يمكنه الإبحار معك في أغرب المغامرات وأشيقها .. هذا يعني أنّ لا أحد يملك جُرأتك الغير عاديّة التي لم تعد تكتفي ببقعة الأمان التي احتوتكَ لآلاف  الأيّام ..

أنا .. والسفَر وبعض الحكايا

إذا كنت تظّن أنّ المُغامرة شيئ خطير .. جرّب الروتين فهو قاتل 

قالها باولو كويلو في مكانِ ما ..

 عن السفر ذاك الذي يزرع في روحك نبتةَ خضراء يانعة تجعلك راوي للقصص .. سارد لأحداثِ تركت في قلبك أثراَ آخراَ حلو المذاقروائح القهوة والخبز .. عيون المارّين .. حكايا الطبيعة .. مسكنك الجديد الذي يفوح بعبق المدينة القديم .. السكّان المحليين وملامحهم التي تروي لكَ تاريخ المكان..

في فترة مكوثي في كالجري .. لم أكّف في البحث عن قهوة بطعم فريد .. كنتُ أبحث دائما عن نوع جديد ليرافقني في مكاني البعيد ذاك ..حتّى وجدت في مقهى صغير غير معروف ذات مرّة القهوة الايرلندية بمذاقها الشديد ..  ساقت الى ذاكرتي كل تاريخ ذالك البلد .. حتّى  الحروب التي مكثت فيها عبرَ الأزمنة.. ولم أنتهي هناك حتّى تعرّفت على السكوتلندية والكولومبية والبرازيليّة ..

 من أوّل خطوة في المطار .. الى رفقاء الطائرة .. حتّى لحظة الهبوط تلك  تشعر وكأن قصتّك في أوجها .. كل الأشياء الصغيرة كانت جزءا عندي من حلم , نزول الثلج الأوّل وقساوة البرد.. الرياح العاتية في الليالي والسعادة الغامرة في حضور الشمس ..

البيوت الصغيرة والغرف الضيّقة ~ التسوّق والمواصلات العامة ..

نعم .. فالسفر علّمني التواضع ..

التواضع لذاتي .. للناس .. وللمكان 

أن أجري بنفسي في ذاتِ البلد كالبلد .. أن أضع رجلاي للحظة في حذائهم .. وأتأمّل الحياة في عيونهم..

من عدّة سفرات فوق المحيط الأطلسي أدركت معنى من معاني هذا الكون المهيب ..تخيّلت كيف كان يبلع المحيط بواخر الهجرة الكبيرة في أوج  الهجرات من اوروبا .. داخل تلك الزرقة الكاحلة .. في الليالي التي لا قمر فيها .. ولا جهات  ولا أطياف

غمرات الموج والحياة ما تحت الموج .. العظمة في ذالك الخلق الذي تُخفيه المياه تحت أكمامها .. سكون الماء وضجيج المركب .. الأفق الذي لا يأتي والحياة التي في الإنتظار ..

أدركتُ كيف تمشي الحياة بمقادير حين أصيبت أمّي بوعكة صحيّة في رحلة العودة من تورونتو فوق أقحل بقعة من نفس المحيط وحينَ سخّر الله لنا طبيبين مسافرين في نفس الطائرة كانا سببا في منع هبوطا اضطرارياَ في آيسلندا .. كأنّه حلم .. لكنها حقيقة ..  لا تتوّقعها لتحدث لك في أمتع اللحظات لتنقلب وتصبح أكثر اللحظات قساوة وتحديّا في نفس الوقت .. 

في لحظة ما .. ألاف الأميال في السماء.. أعطتني إدارة الطائرة إتخّاذ قرارا حاسما في الموافقة على هبوط اضطراري في آيسلندا لأجل أمّي  ..وهو أكبر قرار أربكني في حياتي .. صحّة أمّي في كفّة و400 راكب آخرون – في سفر مُضني- في كفّة أخرى.. التفكير في حّد ذاته في تلك اللحظة كان عبئاَ.. لكنّ شيئا ما طمأنني بتأجيل الهبوط حتّى ميونخ

 .وفي ميونخ نُقلت أمّي من الطائرة الى  احدى المستشفيات هناك  , في بلد لا يتكلّم فيها أحدا الانجليزية , اكملنا ليلة من العلاج في لغة الإشارة . إستلقيت فيها على أدراج المستشفى أنظر السقف ولا أصدّق ماذا يجري .. وما الذ أتى بي هنا .. لتبقى في  الذاكرة ساعات طويلة وطويلة من التعب والرضا والسعادة .. والأمل في أن نعود الى التحليق مرّة أخرى 

كانت هذه احدى اصعب القصص التي يُمكن أن ترافق أيّ مسافر حديث العهد مثلي ..

بعض الحكايا جميلة.. بعضها قاسية.. وبعضها غير متوقعّة ومليئة بالتحدّي

الجمال في العبرة  والخلاصة التي تخلق في جدولِكَ حبّ المغامرة ..

الحمدلله الذي جعلني في تجربة كل هذا

والحمدلله على نعمة التنقّل والتجوال ..

والى البلد القادم ..

iStock_000039083542_Small

.. رحلة الى الخارج تساوي قراءة ألف كتاب

لا شيئ يُعادل العودة الى الوطن ..

ولا شيئ يُعادل السفر حينَ يحينُ..

 وربّما لا  شيئ ينافس فرحتي حين أوضّب الحقيبة لما سيأتي .. للرحلة التالية التي ستعيدُ إلّي بعضاَ من الملاحةِ التي أحتسبني افقدُ منها كلّ حين . الكثير من الأماكن تنتظرنا في هذا العالم .. والكثير الكثير من الجديد المدفون تحت طيّات التفكير والرغبة فقط .

لا تدري أيّ شيئ ستُغيّر فيك الرحلة المُرتقبة,  أو أيّ زادِ ستغرفُ منها, أو أيّ شخصِ ستضيفُه الى حياتك ..

في كل الأحوال انت الفائز .. ستكسب ساعاتِ أو أيّام تسترجع فيها ذاتك المحاربة .. التي لا تقبل الرجوع دون غنيمة .. وستعرف انّ مسالك المطارات والأرصفة التي بلّلها المطر وبلّلك َ ما هي الّا بداية التحوّل .. ستعرف قيمة التدفئة وقيمة الوقت وقيمة القراءة والأهم من ذالك كلّة قيمة الايمان في  الله ووجوده معك في كل العَتَمات التي ممكن أن تُحاول تحسّس الضوء فيها  غريباً وبعيدا ..

السفر ليس فقط كما تراهُ في الصور .. سعادة وافرة ومغامرة تنتهي بكل جميل .. ألوان وأطياف تُحاكي الجنّات ~لا خدش فيها ولا إصابة

معنى السفر يكمن في  الأثر الأخير الذي يتركهُ في نفسك .. في البصمة التي تكبر في قلبك كلّما تحدّثتَ عن هذه التجربة أو تلك .. في كمْ الوَصل والمحبّة التي تخرج مع كلامك كلّما سألك أحدهم .. هل كنتَ هناك ؟

هناك من يُسافر .. ويكبُر الوصل في قلبهِ .. فيزيد حُبّا وبرّاَ لأرحامه..

هناك من يُسافر .. وتتغيّر عنده الأولويات جميعاَ .. يزيد ايمانا وثقةَ بالله

وهناك من يسافر ويعود بنفس ذاتِهِ التي سافرت ..

وهناك من يسافر وينبهر وفقط ..

وهناك من يسافر ولا يعود .. يختبي وراء عيونِ غريبة تُنسية من يكون ..

ما أجمل السفر .. وما أحسن الرجوع ..

وما بينهما ما أجمل الحوار مع الذات

accessoires-city-coffee-girl-Favim.com-2581672

حياة بلون الشوق..

قال أحدهم ذات مرّة : “اينما وجد الحب وجدت الحياة” 

تتلخّص ألوان الشوق جميعاَ عندما أرى بريق عيني أبي داخل كأس الماء في يدّي أمّي.. قَدْر حبّي له كقدْر الحيرة التي تصيبني عندما يبدأ بالبحث عن أمّي بالبيت ولا يجدها .. ينادي .. وينادي حتى تنفرج أساريرهُ بِغتةَ.. حينها يكون قد لمحها تؤشر بيدها من بعيد .. ها قد أتتْ وأحضرت معها المجد والطيبة في طلّةِ واحدة .. تحضر ويحضر معها جبلٌ شاهق من الجمال ..لا شيئ ممّل في قعدتها فروحُها فيحاء وقلبها عربّي عتيق .. سكوتها رزين  وكلامها عذب .. مميّزة وخاصّة في كل مدّ وجزرِ ينبّثُ من شخصها.. هيَ هيَ, تسكنني كما يسكن المطر الغيم , لي كمثل التراب للماء , تمتصّ كلّ شرِّ فيّ لتعود وتقول : أحسنتُ مرباكِ ..

ها أنا أكبر وتكبر في داخلي أيّام من الجمال المتناثر .. وتزداد ثقتي المتعلقّة في قبب السماء في الحديث القائل – 

“ما أصابك لم يكن ليخطأك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك” ..

كُتب لأمّي نموذج طاهر كأبي .. كما أنّها كُتبت لهُ ..

لم يُخلقا شخصان متوافقان .. ولم يُخلقا عاشقان.. ولا حسناوان .. ولا حتّى متساومان في اوقات تحتاج المساومة..

لم تكن الحياة السابقة تتيح تعارفاَ فسيحاَ في فترة الخطوبة كما الأيّام الحاضرة .. خطبا وتزّوجا في رحلةِ قصيرةِ جدا من التحضير .. تعارفهما أتى على مراحل من الاختلاف الفطري .. ثمّ مراحل من الإنسجام .. يَليهُما شيئٌ يسّمى في مُعجم المعاني  تفاهُماً .. ولينتهي بحبِّ كبير,أجهلُ ما أجهل من أسراره التي تحيطني بإشراقاتها كلّما عُدتُ أدراج البيت .. بيت أبي وأمّي ..

كانت أمّي أكثر ما تحّب الاستماع لصفيّة المهندس في الإذاعة المصريّة التي كانت تأتي بحلقة يوميّة من برنامج “ربّات البيوت” .. كان نُظُما يوميّاَ ترتعُ فيه  شخصيّتها الشرقيّة .. للمذيعةِ فيه وقفة يوميّة مع مشاكل الزوجيّة .. تُروّض فيه الحلول المثلى التي يمكن أن توصل كل إمرأة تسعى الى تغيير الواقع لبقعة الأمان!

كطبع النساء جميعاَ, كانت تميل صفيّة المهندس الى المرأة الأم في جميع قصصها.. تجعلها البطلة.. والقُدوة .. وتجعلها الحل !! نعم تجعلها الحل لكل المسائل الشائكة .. وبطريقتها كانت تُنهي كل القضايا وتختمها ب : يا إبنتي .. كلّو في ايدك 🙂

كانت تُروي هذه الحلقات الثقة الخفيّة في وجدان أمّي .. جعلتها قائدة ورائدة .. تحفر في الحلول حفراَ .. وتنقب في تمرّدها الأنثوي حتى تلقى ارتياحاَ ..

بين الفينة والأخرى تعيد علّي بعض ما تعلّق خلسةَ في ذاكرتها من تلك الاستماعات الخاصّة للإذاعة ..

تُحّدثني بذكاء عن أنّ الوقت قد حان لبذل جهدِ في قبول شخص يكون لي رفيقا زوجاَ في حياتي .. وتُلمّح بذكاء أكبر عن بقايا حلمها المتواضع برؤيتي بيضاء ناصعة ألوّح للعالم يوم عُرسي .. بينما تُقبّل هيَ السماء والهواء وتدمع عيونها لؤلؤاَ من الفرحة..

 

تعلّمت الردّ عليها كمثل تعلّمي للحروف .. وعيناي باتت تسرد لها كلّما رأيتها بالحديث ذاتهِ: 

“ما أصابك لم يكن ليخطأك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك” ..

هيَ تدري وتدري أنهّا أنجبت إمرأة من ذات طرازها .. ترمي بأمنياتها الى الله وتمشي دون النظر الى الوراء ..

اذا كان الزواج عند البعض حلم .. فهو عندي أمنية .. أرميها على جوانج الدعاء .. وكل مردود من الله سعادة .. ولا تنسي يا حبيبتي أنّ كلّ فتاة بأبيها مُعجبة.. فارس أحلامي كأبي .. أريدة أن يناديني .. ولا يرتاح حتى يراني آتية من بعيد ..

والى هنا ..

أحبّكما وبعد, 

دلال 

20150718_115506_HDR~2~2

مذكرات من الطريق..

كيف يمكن لبعض المدن أن تكون قاسية .. أو رقيقة ؟! هل تصنع الأماكن ناسها أم الناس تصنع أماكنها ! أيٌّ يستحوذ على الأخر .. وحيدون يا ترى أم تُشّكلنا المناخات !

هذا المساء ..

كذاتِ مساء, تُسدل المدينة عيونها لتنام في نفس الساعة التي لا استثناء في شجونها. ينامُ النائمون طرباَ وسطَ مزيج من العتمة والرتابة ~ أضواء واهنة هنا وهناك ونباح بعض الكلاب التي إجتمعت لتسهر وسط هذا الملل العظيم ..لحظة تصعب فيها إمتحانات التأقلم جميعا على  رفاق “الترحال”, هؤلاءالذين يكسرهم موقف وتجمعهم حكاية , يتأرجح تكّلفهِم بين الشيئ واللاشيئ وكلاهما مرير …

تتطابق الأيّام عندهم كأوراق الشجيرات تلك …. ويكاد يكون المطر عيدهم الوحيد 

يدفنون جميع المصطلحات  في قعر السكون .. لتبقى كلمة “غُربة” على أبواب شفاههم جميعاَ .. مذيبة كل علامات الإنجذاب لأيّ مكان .. فتدور الدائرة وترمي الكل بأشواكِ الضعف فيهم فيستمّروا في الشكوى والبكاء .. …

 يمّر صيف وصيف آخر ثمّ ثالث وبعضُ شتاء, تعود اللحظة باللحظة الى أركانهم لتصدع في مسامعهم غرائب التجديد واللأمل .. يقفون.. تتسمّر قلوبهم في غلاف الوعد الذي قد لا يكون , لا شيئ يتحرّك غير جفونهم التي تبحث لتلتقط بعض التعابير المشابهة, تلقاها وتتشابك وجداناَ بوجدان ..تتفّق .. تتوافق .. وتبني  مشروعاَ لتتفاجئ  في دفن الرمال له في اليوم التالي ..

الطريق صعبة يا رفاق

لن ينال الا من مارس الأمل

ولن يزدهر الّا من داومَ التكرار ..

b3 

.. بعض الألم والأمل

المكان: مستشفى “هداسا عين كارم” … القدس المحتلة..
~ البوست طويل وعذراَ ..لكنه من الأحداث الكبيرة التي غيّرت في حياتي ~
…..
في سنة الدراسة الاولى للتمريض كنتُ قد قدّمتُ طلب عمل ك “راعيه شخصية” .. وهو منصب تلتزم فيه بمراقبة ورعاية مريض معين بوصاية من العائلة او احدى الشركات المتخصصة بالمجال …. ودونما اختياري, كانَت اول ورديّة ليليّة- من الحادية عشرة ليلا حتى السابعة صباحاَ- في قسم الأورام (للكبار) ..
كانت السيّدة نائمة في الغرفة في ذالك الوقت وانتظرتني ابنتها خارج الغرفة “لتوشوش” لي شارحةَ عن كل الأشياء التي يتوجب علي فعلها والانتباه لها ~ قالت لي ترَين بانّ هنا بابان للغرفة, عليك اغلاقهما كليهما واطفاء جميع الأنوار , حتّى الصغيرة التي في اسفل الحائط, لأن أمي لا تحّب الضوء ..
وأكملتْ تسألني , هل أخبرك أحدا عن حالتها ؟ فأجبتُ بلا .. “هيَ في حالة متقدمة جدا من المرض .. وقال لنا الأطباء انّ تنتظرها أسابيع وليس أكثر “…
~
ويهمّنا جداَ ان تقضي هذه الأسابيع في سكينة بقدر الإمكان .. ولذالك طلَبناك هنا .. وهناك شيئ مهم علّي إخبارك به ~ وهو الأهم من بين كل الأشياء التي ذكرتها ..وهو انّ أمّي تُصيبها “كوابيس” حادّة في الليل جراء كميّة الأدوية التي أعطيت لها وجراء انحدار الورم لأطراف المخ …
بصراحة لم يستوقفني الكلام عن وضع أمهّا كثيراَ بقدر ما استطردتني في تلك اللحظة بالذات البابين الذان علي اغلاقهما ليلاَ !!!
قبل ان تذهب الإبنة ~ قالت لي افتحي الأبواب بهدوء .. لكِ كنبة بجانبها وأراكِ صباحاَ …فتحت الأبواب .. وتلّمست المكان الذي سأجلس فيه بجانبها , فتحت الشباك قليلا لأستأنس بضوء القمر .. والله كأنّي أذكر هذه الليلة الآن …كانَ وهجهُ منيراَ جداَ جداَ .. جسمي يرتعش.. وفي يدي كوب قهوة لم استطع الشرب منه لشدّة خوفي وارتباكي .. او لا أدري اي وصفِ آخر يصف حالتي تلك !!!
نظرت الى السيّدة نظرة واحدة ولم استطع تثبيت عيناي حتّى .. وبدأت بالدعاء ناظرةَ من الشُبّاك .. يا ربّي ! ما الذي أتى بي الى هنا ~
الغرفة قاتمة .. وحيّرني السؤال من الذي جعل ان يكونَ بابين لغرف المرضى وليس واحد !! حقا لا أدري ..
لم أنم دقيقة واحدة , مع أنّهُ يُسمح لي بذالك .. لم أستطيع القراءة .. ولا حتى تشغيل التلفون لئّلا يزعجها الضوء وتستيقظ ..
الوقت يمر ببطئ شديد .. الهدوء قاتل .. لدرجة اني اسمع صوت عقرب الثواني في ساعة يدي .. لكن !!!! لا يستمّر هذا الهدوء كثيرا !!

في تلك اللحظة سمعتُ صوتاَ لن أنساه ما حييتْ ..
وفي تلك اللحظة عرفت كيف يمكن للقلب ان يتوقف عن الخفقان ..
نعم .. في تلك اللحظة كانت قد دخَلت تلك السيّدة في صراعِ مع كوابيسها ..

عندها عرفتُ شيئاَ من الليل الذي يعيشه مرضى السرطان ..
واستدركتُ أيّ الحالات تلك, بأن تكون مريضا من هذه الفئة !!
دمعت عيناي وكدتُ أغادر .. لكن شيئا مسمرني على تلك الكنبة.. ولا حراك !!

كانت الكوابيس تلك تأتي على مراحل ~ بمعدّل مرّة في الساعة الواحدة…
وفي المشهد الثاني .. إهتّز بدني مرّة أخرى .. لكن كان أخف وطئا من الاولى …

وثالثة ورابعة وخامسة…
قمتُ من مكاني أخيراَ .. واقتربتُ من سريرها .. ولو انّ ابنتها لم تخبرني بأن لا ارّبت عليها وقت الحالة تلك ..- لأنها ستزيدها ارتباكاَ- لكنت مسكتُ بيدها .. وقلتُ لها ما يخفف من ألمي وألمها … لكني اكتفيت بمراقبتها والدعاء …

ها هو الشروق وأخيراَ .. مُنهكة وعلى وشك الغفيان على الكنبة .. السيدة تنظر بأتجاهي: صباح الخير .. نهضت من مكاني .. وبدأ الحديث بيننا .. كانت بحالة عاديّة وجدا .. سألتني عن سنّي ودراستي .. واذا كانت ابنتها من احضرتني ومتى ستعود .. وأنا اجيب في قمّة الدهشة ممّا حصل ويحصل .. لم اكن قادرة على الابتسام من الذهول~ لكني تصنّعته لأجلها …

فُتحت الأبواب وأخيراَ وحضرت الإبنة .. بيد على كتفي؟ كيف كانت ليلتكِ؟
تسألني عن ليلتي وليس عن ليلة أمها !!! ترددت بالأجابة فقاطعني .. أعرف انها كانت صعبة .. فانا بنفسي لم استطع المكوث بجانبها ليلة واحدة لشدّة الأمر علي …
رجعت الى السكن ورأسي مشتعل بالتفكير !!

كانَ هذا الحدث أوّل “انجذاب” و”ذهول” من حالات مرضى السرطان خلال دراستي .. وكان اوّل رعشة روحانيّة ونفسية تُصيبني اتجاه مريض بهذه القوّة ..
إنه غير هذا العالم ~ عالم لوحده تطويه الوحدة وفقط الوحدة ..

ما أن تدخله حتى تدخل الى خيايا اخرى من خبايا المرحلة.. الى حوشِ آخر ..
الى قلوبِ تُصارع الكيماوي والأشعة.. والأكثر من ذالك “غفوةَ” أقرب الناس ….

وهذا ما جعلني ان أصّر على انْ تكون أوّل تجربة عمل لي بعد استلام شهادتي في قسم مرضى السرطان ~ مع الأطفال تلك المرة في Schneider children medical center … وحكاياه التي ليست أقّلُ مرارة ..

لنجعل مع وقفة عرفة غداَ ~ دُعاءا ونحن صائمين ولو صغيرا .. بأنّ يُخفّف الله عنهم ويشفيهم.. ღ ღ

من رمضان …

قبل بضعة أيّام …كان قد فاتني باص التاسعة والرُبع في إحدى المناطق بالداونتاون في كالجري… وكان قد تبقّى للإفطار ربع ساعة …مرّ بجانبي ثلاثة شُبّان (خليجيين من اللهجة) يحملون أحذيتهم بأيديهم, نصف مبللّين …يضحكون بصوت مسموع ويقولون “كانَ يوما جميلاَ .. يجب أن نُعيد الكرّة !! “…بالعادة لا أعير انتباها لما حولي(أو أحاول عل الأقل).. لكني لم أسمع من مدّة من يتكلم اللغة العربية …ورُحتُ سائلةَ  نفسي أي كرّة هذه التي تتكلمون عنها ؟!… أليس من الأفضل لو صُمتم وانشغلتم هذه الساعة في تحضير الافطار!!  ولا أدري لم قلتُ هذا.. ربمّا لأن جُلّ تفكيري كان على ماذا سأفطر ومتى سأعود ~  الوقت يَمّر والباص ما زال يأتي.. فقررت ان أنتقل للشارع المُقابل لأخذ مسارِ آخر .. واذا بي أرى في زاوية الشارع نفس الشُبّان الثلاثة … إثنان منهم يتوضّآن بأباريق ماء في مدخل احدى المطاعم العربية بكامل الارتياح وواحد يُحضر صحون الافطار في الداخل !!!! وصوت ياسر الدوسري يُسمع من على بُعدِ أمتار ………………. تاهت في داخلي الشوارع كلها في تلك اللحظة …واسرعت الخُطى لأنّي استحييتُ ممّا قلت … ما الذي أخذني الى الشارع المُقابل؟!! …………….وَحدة الله ليُريني …”ضعف بصيرتي “…

IMG_20130720_213937

نبض رابعة ..

نبض رابعة ~ من هُنا أحّدثك, عن واحدٍ..إثنان..بل أعداد بستّة أصفار,  تداركت مُختلسي الحق وخرجت مطالبة استرداده…عن ميدانِ طابَ فيهِ الهواء وغدا أسلوب حياة..عن مذابحَ تُشترى بقنصِ مبالغ الدقّة.. عن تفويض تبجّحَت فيه مواهب الفلسفة الغريقة..أحدثك عن زغرودة أم الشهيد والدموع المُحترّة التي تُناجي بيا رب.. عن أصحاب البذل البيضاء والأيادي الشاحبة المُمحَلة..عن الرصاصات التي تقصف الرؤوس وتُمطر دماَ أصدقاء الحياة..عن إرهاب الوغد المُحطّم … عن الديمو…هزَليّة!!! عن الذبح ورسائل “السخط” المنحوتة على بقع الدم المتجمّدة.. عن القهقهة الهستيريّة عند الضغط على الزناد …عن ابتسامة الغدر العوجاء عندما يُصاب الدماغ …  !!!
أحدثك عن الغربلة “الناصريّة” الحديثة .. عن احتلال المساجد واقتحام حُرمتها..عن التنكيل في المعارضين(كما فعل الأب المعلم في الستينات)…عن المقولة المشهورة التي كانت ترددها داخلية عبد الناصر عندها اقتحامها لبيوت  الاخوان : “نحن في عهد عبد الناصر نفعل ما نشاء معكم يا كلاب”…عن الخطاب الحنون المتملق المدروس ..عن حماية أمن الوطن وتعليق رؤوس المسلمين.. نعم ..فالعهد الناصري الأسود يتجدّد بهندام العسكر..عهدٌ يتأبط الاشتراكية المتعفنة, يحتبس معناها عند التنفيذ بحيثُ تتدكتَر حضرتها تحت مُسمّى “محاربة الارهاب”…سأحدثكَ عن حال القنّاص الوَضيع..الذي يترّنح ما بين طلقة وأخرى…بينَ كفَنِ وإخر..عن لقمة عيشه المغموسة بدمع الثكالى والأيتام ..عن ضعفه وعن “اللاشيئ” فيه..عن عدوّه الشقي الذي أفسدَ عليه التصويب مراراَ .. عن عدوّه فائق الجمال ..بهي الطلّة.. العظيم في الايمانِ والمبدأ..عن الشهيد , الذي يترصدهُ بكلّ بُؤسه الإنساني ..وينام!!ولا أدري كيف ينام  قاتل آثم !!هو لا يعرف انّه بينما ينصهر هو شيئا فشيئا .. “لرابعة” تُولد أخوة وأخوات !!!
وستُحكى الحكاية, بأنْ تزاحمت “نُخبة من الممثّلات” للتفويض ..في أوائل الصفوف بكامل الأناقة.. وكانَ تفويضهنّ جذّابا قاتلاَ…يداَ بيد للمذبحة!! للدم!! للتَصفية!! للعبثيّة!! للإرهاب الحقيقي!! ,ولم يدرين انّ أُمَماً وأفراداَ قد فوّضوا تفويضا آخراَ لا تفقهَهُ الضمائر المُسحلة ~ لله مُثبتهم..ليُدبّر الأمر من السماء الى الأرض …
هنا رابعة…

إلى جدّي …

الى جدي العزيز~  …

الى الأب الفاضل الذي دبّر وأنشأ .. و ربّ العائلة الذي تُقرأ في ملامِحِهِ روايات العلم والدرايَة..

اتمنى ان تصل هذه الرسالة يديكَ  وانتَ راضِ مُرتاح …

أتذكّر انّك كنتَ دائما تُطلعني على رسالة قديمة من صديق قريب منك, قد زار كندا في قديم الزمان … وكنتَ تحملها بكامل الاعتزاز وتردد ما ورد فيها .. كُنتما قد تبادلتما الرسائل بلغة عربيّة بليغة وإطلّاع وثقافة واسعتان تجعلان قارئ تلك السطور يتخيّل بأنَ المُتراسلين اثنين من أدباء الأمّة …. ليست مبالغة بقدر ما هي تقدير لثقافتك الفائضة..الغزيرة .. التي تستحّق ان تُوثّق في كتب الانجازات الفكريّة..فانتَ رجل تاريخ وجغرافيا وأدب وسياسة …وجَدٌ فاضل لطالما احتضن أحفادة بكلامة المَعرفّي الرزين…

امّا كندا يا جدّي…فهي مرسومة بصورة لا تقّل تشابهاَ مع جارتها الودود~ الولايات المتحدّة…هيَ بلد فائقة الجمال, فيها من الطبيعة ما يسّر ويُبهج , والسكان فيها عبارة عن خلطة متوازنة من مشارق الارض ومغاربها .. بل هيَ اتحّاد لجميع الاطياف والالوان .. والاحرى القول بأنها “التعايُش” البشري الجميل الذي يتكلمون عنه في كتب التنمية البشرية…

الشعب لطيف جدا .. أكثر ما يميّزهم حبّهم للمساعدة.. وقد صرت أخجل أحيانا بأستفساراتي عن بعض الاشياء, لأني اعرف بأن هذا الشخص سيترك كل من حوله ليبحث معي حتى يجد لي جوابا !! وهذه رائع!! أماّ بُعدهم الجغرافي عن مركز العالم فأكتشفت بأن له ضلع في ثقافتهم السياسية الضعيفة..الخالية من الحماس الذي تراه واضحاَ في عيون الشرق اوسطييّن أمثالنا… فقلّما ما تجد واحدا يناقشك في الاحداث العالمية التي تُحدث جللاَ في هذه الدنيا .. وكأنها كوكبُ آخر يبحث الاناس فيه عن العيش في أمانِ وفقط … والآن اصبحت متأكدة بأنه لا يمكن أن تحدث هنا “ثورة” يوما ما !!!

 أقولها مليئة بالأسف بأنّ الهدف الأكبر من وراء “التواجد السُكّاني” لا يفيض من أهداف بعيدة المرمى .. فلقمة العيش ثم الاسترخاء والامان… ورأيتُ انّ أكثر ما يسيطر على عقول الشباب هنا في سكن الطَلبة .. هو اين سيقضون نهاية الاسبوع؟ وكيف سيستمتعون بها ؟ … ولكني أظّن انها النمطيّة الممّلة التي تعتَدي بسكون على فئة كبيرة … فلم اجد هنا روحاَ ثوريّة تشّدني.. ولا شخصا يُحارب من اجل التغيير… ولا نقاشاَ تستمد منه طاقتك المكمونة الّا تلك التي تُبادر بها المراكز الاسلاميّة والمراكز الفلسطينيّة التي لا اجدٌني مُبالغَةَ عندما اقول بأن الفلسطيني حاضر بكامل أناقته الفكريّة اينما حل!! ولرجلاهِ صخب تجعلان الكل ينتبه لدخوله… وكانت ذكرى النكبة هنا اقّل ما يُقال عنها رائعة…

انتَ ضليع وخبير بمعالم الطبيعة الذي أبدع فيها الخالق.لذالك أحّب ان اخبرك بأن جبال الروكيز مُنتشرة على الحدود الغربية لكالجري وهي المدينة التي اسكنها الآن…وانا اعشق كل ما يتعلّق بالجبال… فهي أكثر ما يشّدني ويغمرني عرفانا لخالق الطبيعة!!!…وهنا لها جاذبيتها الخاصة لأنها  تزيد من نضارة هذه البلد التي تتسّم  بالتقاسيم القروية الريفيّة .. فكالجري احدى مَواطِن “الكاوبويز” والفلاحين لذالك لا ترى فيها كثيرا ملامح المدينة “النيويوركيّة” ذات البنايات العالية الصاخبة….. وهذه احدى الاشياء التي جذبتني اليها…

انّها لفرصة عظيمة ان اكون في احدى اكبر دول العالم مساحة .. وفي اكبر تجمع للحضارات .. فرصة عظيمة استعيد فيها ذكريات الإرث الفلسطيني الذي أحمله على كتفي اينما حلَلت…فرصة لمراجعة الذات والتنقيب في الأولويّات.. ووجدت بأنّ لعائلتي أثر راسخ في قلبي ومكانةَ كبيرة لا تُستبدل ولا تغرق ابدا في محيطات الغربة جميعا .. فالحنينُ نفس الحنين .. بل ويزيد…

شرعتُ أكتب لك هذه الرسالة …لتعرف انَ قيمتك الاسرية محفوظة دائما… وبأنّ اسمك مثالا يُدرّس, فشيئ من ثقافتي المتواضعة يحمِلُ مواقف ربّيتنا انتَ عليها ..وسعيدة بأنك تُشاركني الآن بقراءة هذه الأحاسيس التي تُخالجني في بيتي الجديد المؤقت .. وأسعد لانّك كُنتَ شريكا بإحضار أميّ الرائعة الى هذا العالم  وثمّ بتيسير زواجها  لشخصِ مميّز كأبي …. فبدونهم لم أكن أنا.. بما عليه حالي الأن …..

بورِكت أيها الجد الفاضل …. دوام الصحة والعافية ان شاء الله

 

إبتدائي ..

في سادس ابتدائي;  قالت لي مُديرة المدرسة “بُثينة يونس” … أنا لا اجد لك شيئا تُشاركينَ فيه في حفلة عيد الأم !! ..كُنتُ أوّد العَرافة, وراحت العَرافة لبنت أخرى… فقلتُ لها سألقي او أغني القصيدة التي وزّعتها علينا اليوم (وكانت قصيدة درويش~ أحّنُ الى خبز امي…)..لم يكن صوتي جميلا ولم ألقِ قصيدة واحدة في حياتي!! لاحقا دعَتني الى مكتبها وقالت لي هيّا أسمعيني إلقاءا بلحنك الخاص ..فبدأت أرنّم وكنت مُرتبكه جدا..وصوتي هزيل ومضحك, فنظرت الّي وقالت بصوت متردد: آسفة.. لكن لم يكن هذا جيدا!!!
تأثرتُ ورحتُ أبكي حتّى بلّلت قميصي.. فمَسكت وجنتاي وقالت: انتِ تصرّين .. وانا احّب هذا, لكني أريد القاءا مميزا وسأعطيك فرصة حتى غدا صباحا…وبعدَ تدريبِ شاق, قُبلتُ للمهمّة … وجاء اليوم الموعود..اليوم الذي لامست فيه من بين عشرات النظرات نظرة أمّي, التي قطعت خمسة كيلومترات مشياَ لتحضرني…وخرجَ منّي القاءا بلحنِ لا أعرف سرّهُ حتّى الآن!! ولكني أعرف جيّدا انّها كانت بداية ادراكي بأنّني يجب ان اكونَ شريكةَ حاضرة.. وفلّزاَ فعّالاَ.. فصوتي لم يصلح للغناء او الالقاء بقدر ما صلح لمُخاطبة الذات وإثبات الوجود..
وتكرّر نفس الأمر في الثالث اعدادي في حفلة التخّرج ايضاَ… فتيّقنت أكثر وأكثر بأنّها رَغبةً جامحة لتَرك الأثر, وهروبا جليّا من طابور المُشاهدة..فها انا اتجوّل الآن في شوارع كالجري-كندا, وتتشّكل أمامي من جديد هذه القصص الصغيرة ..أتذكر تفاصيلها بدقّة .. وأتساءل عن أهميتّها أمام الأحداث الضخمة التي حصلت معي وعائلتي .. ولا جوابَ أمثَل من انهّا كانت حصادا أملَسا لكل ابتلاء اختاره الله لنا..
حصادٌ أملسٌ لزرعِ أريحّيٍ عرِقَت في تُراباتِهِ يدا والدين تشهد لكفاحهما الكثير من المُسميّات…فطوبى لبركة الكُرَب والمِحَن..

alarab18932

.. والجبالَ أوتاداَ

  ما زلت أغرَق في معاني الجبال كلّما تأملتُها..أهتّزُ وأخشَع..وأسرَح في أبداع الخالق سبحانَهُ وتعالى ..ايّ حكمة ترَك لنا الله لحفظ توازن هذه الأرض.. !! وايُّ إحكامِ وضعَ لنا في هذا العلّو المليئ  بالعظمة  …اي مجدِ يُكبّر ويُهلّل لعزيزِ جميل..!! انّهُ مَنظَرٌ  يبعثُ فينا الراحَة والسكينة …وقال الله فيهِ:  “الم نجعل الارض مهادا * والجبال أوتادا” ..جبالا كالوتدِ مُثبتّة  ومغروزة في الأرض كي لا تميلَ وتتحرّك ..كلامٌ أُنزل على سيّد الخلق قبل 1400 سنة ..فيه هذا القَدر من الحكمة والإتقان..عرَفهُ النبي في زمن كان يجهل فيه الانسان طبيعة تكوين الارض..ولم يستدّل الجيولوجيون على هذا التكوين العظيم الاّ في القرن التاسع عشر وبعد..وجاءت نظريّة التوازن الهيدروستاتي Dutton  ونظريّة بنائيّة الألواح لتَفتحَ أعيُن الغافلين على الاعجاز القرآني لتقول بأن للجبال شكلا كالاوتاد  ومن وظائفها الحفاظ على توازن القشرة الارضيّة.. “لمّا خلق الله الأرض جعلت تميدُ فأرساها بالجبال”- أي ثبّتَها بالجبال..

سبحان الله  على هذه الكلمات المُوجزة , غزيرة المعنى.. ويتوالى وصف الجبال في الاعجاز: “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمُرّ مرّ السَحاب صُنع الله الذي أتقن كل شيئ انّهُ خبيرٌ بما تفعلون” , حيث ظنّ العلماء بداية انّ هذه الآية تتحدّث عن يوم القيامة لكن كلمة “تحسبها” قطعت الشك باليقين ..لأن كل ما يحدث في يوم القيامة لا شكّ فيه..والظن والحسبان هو فقط في الدنيا..وراحَ المفهوم  الصحيح الى انّ الجبال تتحرّك وحركتها تشبه مرور الغيوم.. وطبعا وصلت هذه المعلومة قلوب المؤمنين قبل مئات السنين  واكتشفها العلماء في القرن العشرين على يد العالم Wegener    الذي جاء بنظريّة تحرّك القارات .. وثبتت صحتها من خلال الاقمار الصناعيّة والمراصد الفلكيّة..وتتالت بعده الابحاث ووصَل ما وصَل اليه ايضاَ Pysklywec..

لكن كيف سيكون حال هذا التكوين الرفيع يوم تقوم الساعة..سيصبح هباءا مُنبثّا..لن تمنعها قوّةَ نووّية  ولا قّوّةَ كهرومغناطيسيّة ولا قوّة جاذبيّة.. ستتفتت هذه الثِقَل المغروزة غرزا وطيدا بأمرِ من الله الذي وصف لنا كيف سيكون حالها  وقال ~

“وتكون الجبال كالعهن المنفوش”..اي كالصوف الذي يُنفش باليد ويتطاير بخفّة..

“وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ”..اي اذا فُتتّت  وأُقتلعت من أماكنها ..

“يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مّهِيلاً”..اي كانت رملا متهايلا..

“وَبُسّتِ الْجِبَالُ بَسّاً*فكانت هباءا منبثّا”…اي فتّتت تفتيتا حتّى صارت كالبسيسة ..-كالطحين-..

~صدق الله العظيم ~

 

من غربِ كالجري-كندا

 

300099_10151532262313921_1389611988_n[1]

482700_10151532263223921_1257051131_n[1]

إسمك والأسماء

بَتعاَ يُسابقُ اسمكَ الأسماء..
ايّ العلوم تقول
بأنّ الحبّ سباق..
عِش في الهُوينا ~
خُذ مَنفساَ واشتاق..
فالحاضرُ قد يرحلُ يوماَ
فاخفُف خطاك لمُنتَهىً.. لفُراق..

سِرّاَ يُسابقُ اسمك الأسماء ..!!
إجهر بلينِ الروح..
هل تحجُب الحُسنَ؟
أم تحجب الحسناء!؟

سِرْ في الصفوف آمناَ..
فالود ملامحٌ تَكبر..
لا تَحتَمل خفياَ ..
لا تزدهر بخفاء..

إرأف ..ظلّلْ… وجامل مجاري الفَرَح
فقلبَك لو عرف المشي
لهَجرَك..
يا كاتما شيئا.. يا مُخبراَ أشياء

556216_4308809570991_48200772_n

دونا.. دونا

في يوم من الأيّام..عندما كان عمري في ال”4-“..وُلِد أخي هلال
(لفيف من لفائف الجيل الرزين ~ جيل نُص نصيص وجْبينِه, القصصُ التي غمرتنا بنفس المشاعر حتّى في المرّة المِئَة من سردها.. فكنّا نستاءُ نفس الاستياء في كل مرة تصل فيها أمي الى مقطع وقوع خرَزة “جبينة” بالماء.. ونفرح ذات الفرَح عندما يسكت جدّي قليلاَ ليقول بحماسَة أن “نخالة”- سخلة نص نصيص- طارت هرباَ من الغولة.. هي تفاصيل كبرت فينا وكانت رفيق الليالي الكاحلة التي تمدّدنا فيها على الأرض تحت السَما وسُردت لنا في وَشوشة وهمس  صحّحَا في قلوبنا معاني الخوف من ستنا الغولة.. ذاك الخوف المُتاح .. من شخصيّة- ملساء اللسان, مُضّله تَعترضنا بكل مراحل حياتنا )..
هلال.. هو الوَلد البكر في عائلة فلسطينية فلّاحة مُحترفة بالعطاء..نالَ فصلا من الدلال حتى أنّهُ لدَغَ بحرف “التاء” وتحرّر لسانه فقط في سن الخامسه او السادسة ,قليل الكلام-لكنّهُ الأوّل في كل شيئ.. وعندما بلغ الثانوي..بعثة أبي الى المدرسة الارثوذكسية في حيفا- التي كانت آنذاك أقوى مدرسة في الوسط العربي بحد تعبير البعض(خيال).. كان يُعلّمني الانجليزية بالبيت..ويدرسني غيبا قصائد كان يتعلمها هو في اول ثانوي لاكتساب اللغة..كانت أشهرهُنّ قصيدة  donna donna  التي كتبها  Aaron zeitlin ..لم افهم معناها الدقيق حينذاك, وما عرفتهُ فقط انها كانت تتحدث عن عجل يقودهُ صاحبهُ للذبح في السوق وطائر سنونو يحلّق من فوقهِ.. ووضح لي لاحقا انها تحمل بين سطورها قصص اليهود الذين قودوا الى معسكرات الابادة في الحرب العالمية الثانية…كانت المدرسّة تطلب من طلّابها حفظ هذه القصائد غيبا في اللحظة التي عشّشَت  فيها قصائد شكسبير ورفاقة على الرفوف..وفي اللحظة االتي  جلست فيها فكتوريّات تشارلز ديكنز.. وحيدة كمادة اختيارية ..أمّي لم تعرف عن هذا المُلحَق كثيرا ..لكنها أنشأت مشروعها الخاص.. كانت تقطع مسافة مشيا على الاقدام لتشتري الكتب , لم تُجد أمي العبرية كثيرا  وكانت البائعة تسألها :- “لمَ تأخُذي عدّة مستويات مع بعض ابدأي مع ابنك بالمستوى الأوّل فقط ؟!! (وكأنها تتحامق !!!هل اللهجة المبعثرة  والرائحة القرويّة وذاك الاصرار ليسا بدليل كافِ على انّ لأمي اولاد على عدد المستويات الستّة؟!) , واستمسك كّل منّا  بالمستوى الخاص به وأُجبرنا بذكاء على القراءة حتى أستهوانا هذا المشروع  🙂 …
هذه نبذه بسيطة عن محاولات “تهويد الفكر” التي تقودها حتى الآن وزارة التعليم في كل(وكل يعني كل) المدارس العربية في الداخل لكسب بعض المشاعر لتاريخهم الخبيث… ولرمي عقولنا في مادة “الشعب المُختار في التناخ” بس فشروا .. ف- “دونا دونا” درساَ ضعيفاَ في اللغة ..ودرسا قويّا للانسانية..قويّا للوطن .. الذي سنبنيه ناطقا ب ا ل ع ر ب ي …

9780141028903

الى أخي ..

لم يَخفَ علّي ارتباكك في آخر مكالمة لي معك.. وليتك تعرف كم فرحتُ لهذا الإرتباك الذي طَمئنني على رابطِ لا اريده ان يتخلخل ابدا ~ ورُحت اتخيّل انكّ تبكي احيانا .. كما بكيتَ يوم تخرجّك من جامعتك في عمّان عندما أتَتْ عيناك صَوبَ أبي وأمي وسط حضورِ ضخم,ورُحتَ سارحا في ذاكرة العِناد والجهاد والمحبّة التي تنضخ من هاتين الشخصيتين..وكيف لوّحا لك بنفسِ تفاصيل الكفّ التي لوّحت لك عند دخولك للمطار.. أيدي بنَت وطوّبت وحرَمت نفسها مراراَ لتسّد رغبةَ لي وأخرى لك..
لا أُخفيك أنّي افتقدكَ جداَ.. لكن لا تقلق هو افتقادٌ حضاري يؤمن بالطيران ويحب “التجوال” .. وكُن على يقين اني احّنُ للقاءٍ اراك فيه مِلأ أحلامك الفسيحة..التي لن تعرف التيه في دنيا كتَب الله لنا فيها سعيا وكدحا ..هذه الدنيا التي لا تزن عندهُ جناح بعوضة.. فعَجَبا انْ كنا سنعطي للمسافة فيها ان تحجُب الآفاق..وتُجلسنا القرفصاء ابدا..
ها أنا أُقلّب الآن صوَرا من حكايات السرد الطويل.. فيها من الماضي مُمْتَلَئاَ لا يعوزُ توثيقا لأنَهُ مُقيمٌ في الذاكرة إقامةِ الآمن المُطمئن…أتذكّرُ ايام الصبا, يومَ كنا نرتع في حقلٍ رحراحِ لا يحدّه شيئ غير الواح الصبّار, كان لكل منا شجرة لوزٍ بإسمه .. عشنا اياما لم يكن فيها حسابا للمساحات .. فيها اخترنا بكامل العفوية انْ يثبَت حبل الغسيل بين الليمونة والرُمّانة, وكم كنا نسخر من مفهوم مصطلح “حديقة البيت” المُعرّف في الكتب.. لأنّ بيتنا وقَع على تلة غرّاء ملأت فيه الحديقة دونماتِ عدّة .. وبعد التهجير دُفنت لوزتي ولوزتك ودخل لحياتنا باختزالٍ وحَسرة مِنشَر الغسيل البلاستيكي..وترَكنا للشَجَر مسّمياتِهِ .. ولأسامينا حفظنا عبَقا من اغصانِ وحَنين..

اتذكر..ايّام كنّا نمشي عشرة كيلومترات ذهابا وأيابا من المدرسة..بكامل المرح والاستبشار لنصل كتلة عرق في الصيف وكتلة جليد في االشتاء ..دعك من هذا, فكلٌ منا كان الاوّل على الدُفعة ..ونضَج معنا المشي ليُصبح متعة وهواية نمارسها على كلّ ذرّة تُراب في الوطن..منذ تلك الايام عرفت اننا فصائل قادرة على التحمّل ..و فصائل تعشق الابتلاء… ها أنا انظر اللآن الى صورة جدّي رحمه الله ~ ويأتي طَوعا على بالي يوم لحقنا ديكاَ له هرب من مزرعته.. وعندما صرخ بنا بصوتِ كصوت الجنرالات ~ “هيّا..ستّة أفراد تستعصون امساك ديك!!”..مع اننا مّربى أريافٍ واشباح متدربه تحترف الركض وتُسابق الريح.. ومع هذا فلَت منا الديك كما فلت منا الوطن ..
الذكرياتُ سردٌ طويل النوى يا نضال ..تسحَبني التفاصيل فأتذكرك ..وتسهب فيّ الايام واستحلي ما كان معك..تخطر على بالي كثيرا مواقفك الشجاعة والمقدامَة, يوم أنقذتنا بتصريف الهي من حادثة غرق حتميّة..موقفٌ لا تثبتُ فيه دمعة بعين, دفَعتَ بنفسك الى تيّار غادِر وآثرت حياةً على حياتك..ولا يفعلها الّا الأفاضل.. لا يفعلها الّا مُحسن ظنِ عمَرَ الايمانُ قلبه ..

البارحة كان عيد ميلاد أمي(12.12.2012), فألقت رلى أختنا الكبيرة بخفّة ظلّها المعتادة كلمة حبِ لها.. في لقاء عائلي ..أعجزعن تلخيصها..وراحت تتكلم عن كل فردِ فينا.. ووصلت اليك وقالت فيك كلاما غاليا يليق بشَخصِك.. واسترسلت : “أتذكّرُ يوم كنّا في الابتدائي وكنا نلعب “الغمّيضة” في ساحة المنزل, ومن لهفة نضال -ابن الرابعة- راح راكضا وقافزا بنفسه ليختبئ في برميل كبير .. علُوَ صراخه فهرَعنا اليه واذا بهِ -يتفعفل-داخل برميل أُعّدَ للماء.. ومددنا ايدينا لننتشله ولم ننجح لأنه كان سمينا جداَ.. نأخذه من ملابسه فترتفع الملابس ويبقى في القاع..حتّى سحبناهُ بقوّة كبيرة أرْدَتنا ارضاَ “.. >> واكرهتنا بتلك البراميل التي كانت مُحبّبة الاستعمال عند جدّي..حيث كانت مِصيَدةً لمياه المزاريب في الشتاء..وكنّا نراهُ يعتليها مرارا ليلتقط الخروب.. يطبخه ويصُنع منه رُبّا صافيا من أجلنا ..وحدث ان ضُبِطَ مرارا   في “سيارة جيب” للشرطة  الاسرائيلية  بعدما كان يُستفّز ويُطلب منهُ  اظهار “بطاقته الشخصية”  فيرفض ..ويُعتقل وهو يلتقط الخروب ككل عام .. مُبتسما من تلك المهزلة مشيراَ لأبي بأن يلحقه الى مركز الشرطة..فيبتسم أبي هو الآخر وكأنه يريد ان يقول لهم جهّزوا انفسكم لنفس المهمة في السنة القادمة.. أمّا نحن فلم نركض وراءه تلك المرة.. كنا قد تعودنا على فكرة اعتقاله  تحت الخرّوبة..
أنهت رلى الكلام عنك وتحّررت دموعا في مآقي الجالسين جميعا..وسرعان ما أوقفناها للدعاء لك..أن يحفظك الله ويقضي لك نجاحا في كل ميدان..وانتهى اللقاء وكلٌّ لحق ركبُه..وغدا سنرجع للروتين وستمضي الأيام وتدور بنا.. لكن سيبقى الحساب الأرجح للساعي المُجاهد التي لم تكّف رجلاه عن الحراك لتغيير العالم..مُتوّكلٌ ومُحسن الظن وإن أخفق..شخص لن يتردد الناس ليقولوا عند رحيله:”نعم..لقد كان  هنا”..فاثبت لأنّ ما تفعله جدير..

63834_474226422628774_1534124126_n

عِلمُ البدايات ..

يخفق قلبي الآن .. نعم , وبشدّة .. تتوّهج في مراسي عيوني كل هدايا هذا الافقِ..شُعاعه وبعادِه , وحتّى فلسفة الضوء  المنحوتَةِ في خاطرهِ ..مدىً آخَر عليّ عبوره.. وتعهّدِ آخر علي ارضاءه, اتحسسُ ثمار عزيمتي التي لم تنضج بعد ..  انزعُ طرايا الشوك الصاعد فيها  كإمرأةٍ ناضجة تمضي وتُعلن المَشيَ من جديد, بعدَ قعودِ قرّصَ  فيها الجوانب وخدّر.. فنفسَهُ الشارع الذي تعتّمَ امام ناظري مرّة,  ونفسهَ الاسفلت الذي ضجرَ من حذائي متعثّر الخُطى .. يُوسّعا ليَ  الحُضن ويُلمعّا المسافَةَ نوراَ ,, وها انا أحظى بإشارةِ خضراء اخرى, بتذكرة مرور صلبة الجوانب , واضحة الخط جدا حتّى لا تترك لي فرصة التشكيك بالنصوص .. صفراء حمراء كصبغة الشَفَق إبّانَ الغروب .. محتارةٌ هيَ بأيّ لونٍ تُرديني الحياة .. وبأيّ خطِ ترديني “حبّ ما بعدَ الحياة”..
نعَم..الظروف تتهيّأ ..والمكانُ يتجمّل بأبهى حُلّة ..انّهُ مَنظر مُغري للبدايات, مُشبِعٌ للمقلات ..
تلزمهُ نقاوةٌ ووجهَةٌ يقينيّة لا تتدعثر مهما تغبشّت الرُؤى ..